رابع المستحيل

فرغت يافا من سكانها .. حملتهم الهوادج الملونة .. المزينة بالشرائط والقلائد إلى رمال روبين .. استقروا هناك لقضاء موسم الصيف .. استسلموا لطقوس المصيف الفذ .. حلقات الدبكة والرقص في النهار .. وسهرات الغناء والقصف في الليل .. والتريض جيئة وذهاباً بين التلال المترامية على مطارح البصر..

عرج الديناري على المستشفى الفرنساوي .. ربط جمله في سروة على باب المستشفى .. تسلل إلى الداخل باحثاً عن الوديعة التي أودعها منذ ستة أشهر .. جاهداً أن لا يلفت الانتباه حتى لا يكتشف أحد قرابته للمريض فيلزمونه دفع ما عليه من المال.
وصل إلى سرير حسين في عنبر الرجال .. وجده جالساً في منتصف السرير وفي يده السليمة قلم وعلى ركبتيه كراس كبير يخط عليه .. لم ينتبه حسين لوقوف الديناري خلفه محدقاً في الكراس :
ـ بشوف عَيّنوك في القلمودة.
رفع حسين رأسه وعلى وجهه علامات السعادة البالغة.
عانق ابن عمته وعاتبه على مقاطعته له طول هذه المدة.
ـ زمان هالقمر ما بان.
لم يكترث الديناري لعتابه .. أخذ منه الكراس وحدق فيه مستغرباً .. شرح له حسين ما خفي عنه :
ـ الحكيم الفرنساوي نصحني أتعلم القراءة والكتابة.
ـ هيك خبط لزق من غير خوجاية ولا شيخ كتاب.
ـ الخوجاية موجودة .. شايف العجوز إللي هناك .. هذه الراهبة تعرف القراءة والكتابة .. والحكيم طلب منها مساعدتي.
ـ وصرت تفك الحرف.
ـ فك الحرف سهل .. المهم ربطو .. شوفة عينك الكتابة هية ربط الحرف زي ما القراءة فك الحرف.
جلس الديناري إلى جانبه على حافة السرير وحدق في الحروف التي كتبها حسين فوجدها طالعة ونازلة .. قال ساخراً :
ـ ما شالله يا ابن خالي خطك زي سناسل الذهب .. بدي إياك تكتبلي حجاب للمحبة والقبول .. في هاليافاوية مكيعاني .. من يافا لروبين ما حكت معايا ولا كلمة .. ولا لوحتلي بطرف أصبعها .. بيضا وشعرها أشقر وعينيها زي صدر البحر .. ورموشها بتدبح دبح .. أي إذا شِرْبِتْ بتشوف المية من زورها ..
تنهد الديناري :
ـ وين بدها تروح مني ؟؟!!.. حملتها من باب دارها لروبين .. وبعد الموسم .. رح أحملها من روبين لباب دارها .. وأسوق على أبوها كل الملل .. إسلام .. يهود .. نصارى .. لغاية ما يتعب ويجوزهالي .. أنا وراه والزمن طويل.
انطلق الديناري يحدث حسين بكل ما جرى له منذ أودعه اسبيطار الفرنساوي وحسين ينصت له بشغف .. أخيراً تعب الديناري .. سكت برهة ثم سأله :
ـ وأنت .. ماذا جرى معك .. هل هناك أمل؟
تبسم حسين ابتسامته الوادعة :
ـ يقول الحكيم أنني لو جئت في الشهر الأول من إصابتي لعالجني في يوم واحد وأعادني إلى البيت مشياً على قدمي .. أما الآن وبعد عام من الإصابة فإن العلاج سيأخذ وقتاً طويلاً .. ولن أعود إلى البيت على قدمي بل على عكاز أستند إليه .. يؤكد الحكيم أنني سأقف دون معونة أحد .. لكنني سأستند على العكاز حينما أخطو من مكان إلى آخر.
هتف الديناري :
ـ يا سيدي نص العمى ولا كلو.
ودع الديناري ابن خاله.
ـ على أن أحمل اليوم عائلة الحسن إلى روبين .. حين ينتهي الموسم سنبدأ في نقل المصطافين ثانية إلى يافا .. خاطرك ..
لوح بيده ومضى.
شيعه حسين بنظراته حتى اختفى .. عاد ليمسك القلم من جديد ويقلد الحروف التي رسمتها له الممرضة.
حين وصل الديناري بعائلة الحسن إلى خيمتهم .. كان الزحام في روبين على أشده والشباب تركوا حلقات الدبكة والرقص والغناء وانتظموا في موكب مهيب يسير من مقام النبي روبين إلى المخاضة.
عرف الديناري أن الحاج أمين الحسيني يترأس الموكب وأن الموسم كله تحول إلى مظاهرة للحفاة بالمفتي.
تقدم الديناري على ظهر جمله ليشرف على المظاهرة .. الأهازيج تشق عنان السماء .. والشباب يهتفون للمفتي ويقذفون طرابيشهم في الهواء فرحاً بوصوله .. المفتي يسير منتصب القامة .. وقوراً شامخاً بعمامته تحت خفق الرايات .. أمامه السيافة يتبارزون بالسيوف .. وصوت الجموع يرج المكان :

سيف الدين الحاج أمين
شمسك طلعت يا فلسطين

حاج أمين ارتاح ارتاح
الأقصى مسيج بالأرواح

_________________________________________

يقدم السبعاوي في روايته هذه التي يختتم بها الرباعية.. صورة مليئة بالحيوية و التحفز .. للشعب الفلسطيني الذي يواجه أقداره ببسالة أبطال الأساطير .. قد ينتصر ويقد ينهزم وقد يتمزق اربا.. ولكنه لا يموت ولا يندثر .. في كل مرة يلملم جراحه ويعاود النهوض من جديد ولا يكف عن مواصلة الصراع .

تدور احداث الرواية بين غزة ويافا وتتسع الدائرة احيانا لتشمل فلسطين كلها .. حين يؤرخ لثورة القسام وقيادة الحاج أمين الحسيني .. واضراب عام 1936 .. وحال الثورة الفلسطينية قبل الاضراب و بعده.

تعنى الرواية بوصف المدن والقرى الفلسطينية والمواسم و الحرف السائدة في ذلك الوقت.. و أحداث الحرب العالمية الثانية و أثرها على الشعب الفلسطيني و قضيته ..

وتصدق فيها نبوءة الدوش الذي قال لشقيقه خليل العائد من ثورة الشريف .. وهو يرى الانجليز يطردونهم من أرضهم في وادي الزيت ويسلمونها للمستوطنين اليهود .

روح وريهم النيشان اللي اعطاك ايه اللنبي.. اي اذا الاتراك قلعوا الزتون.. اصحابك الانجليز بدهم يقلعوا

الارض من شروشها

تنتهي الرواية بالزلزال المروع الذي أحدثه قيام الكيان الصهيوني على الارض الفلسطنية المغتصبة.

مؤسسا لاندلاع المقاومة الفلسطينية التي مازالت تؤرق الصهاينة ومن وراءهم .. والتي لن تتوقف الا باحقاق الحق و ازهاق الباطل .

Leave a Reply

Fill in your details below or click an icon to log in:

WordPress.com Logo

You are commenting using your WordPress.com account. Log Out /  Change )

Twitter picture

You are commenting using your Twitter account. Log Out /  Change )

Facebook photo

You are commenting using your Facebook account. Log Out /  Change )

Connecting to %s

%d bloggers like this: